اخبار السياسه سجين الحصن «قصة قصيرة»

اخبار السياسه سجين الحصن «قصة قصيرة»
اخبار السياسه سجين الحصن «قصة قصيرة»

كان ضوء الشمس الحارق يخترق فتحات صنعتها الجرذان في الجُدْر.. شعاعها يتبع أجسادنا الخاملة وكأنه من الجحيم على جلودنا التي لم ترى الشمس منذ سنوات، لا أدري هل نضج أولادي أم في المهد كما تركتهم ظلّوا؟ هل كبروا ويلعبوا في الأزقّة.. عندما أخرج.. آهٍ، عندما أخرج ربما أقابلهم في طريقي فلا أعرفهم ولا أتعرفهم.

شعري الأشعث وذقني ينموان بينما يهزل جسدي وتبرز ضلوعي بين ثنايا جلدي..أنام جالساً وفي حجري عشرات الرؤوس النائمة الغافلة المغشيّة من المساجين.. نتشارك طبق طعامٍ واحد قذر سوياً يحتوي قطعتي خبز جافيين ومياة تشوبها القذارة.. نقضي حاجتنا حيث نجلس، فيغدو المكان نجِساً لا يُحتمل؛ لكن مع الزمن استطعنا التأقلم.. استطعنا أن نتضرع إلى الإله، واسطعنا أن نأمل في رحمته.. أعدادنا ثابتة، فلدينا الكثير من البُدلاء، تبتلع الأرض أحدنا فينبت لها آخر.. خائفاً، يرتجف ويرتبك، يتشتت ويتنهد، يشهق فيزفر؛ ثم يعتاد على وجودنا فيتعوّد حياتنا.

كان حنّا يفترش بقعةً متقرّحة من أرض الزنزانة بجسده النحيف، ويضع رأسه الضخم فوق فخذي يروي لي ما شاء الله له أن يروي، أن يحكي عن أبنائِه وزوجته وعائلته الكبيرة كِبَر البحار.. كنت أعلم أنه يهذي في أغلبها، ولكن كنت أحترم له هذيانه..

سألني: "ماذا عنك يا...." كنت أردُّ عليه بابتسامة لا تخلو من قهقهة مكتومة واهنة كوهن الجسد الذي يحملها؛ سنوات في السجن ولم يسألني حنّا يوماً عن اسمي، أو أنه سأل فنسى؛ أو أنه آثر التناسي فالنسيان، ليحتفظ بذكرياته ونوادره.

رسمت صليب يسوع فوق صدري.. قلبي أسير حزنٍ لا ينفرج، حبيس دمعٍ لا يسيل؛ كان الجنود يحملون جسد حنّا الذي أبلاه الجوع والمرض ببلاء السجن والذل، عاشرت لحظاته الأخيرة وتنفستها.. كان نائماً ككل ليلة جسده منكمش على نفسه؛ حتى تشعر أن عظام فخذه وركبتيه تخترق عظام صدره وضلوعه، لكنه فجأة أصدر شهقة اهتزّت لها أركان الزنزانة بمسجونيها، وتبع صَحوُّه رعشة ووهن.. "أين ذهبوا؟ ماذا فعلتـــم بهم؟ ماذا  فعلتــم لعائلتي؟" كان يسأل ولا يحمل جوفي له إجابة، فربّتُّ على كتفه وظهره، فانهار أرضاً، وعيناه شاخصتان في فراغٍ مظلمٍ بعيدٍ.. سألته: "ماذا ترى يا حنّا؟".. تنهد حنّا وأخرج زفيراً ثقيلاً وهو يقول: "ابنتي وولدييَّ.. زوجتــي وأبوييَّ.. صحبتي وزقاق سكني.. نور الشمس وليس حرقتها، صفاء السماء وليس زرقتها .. بكائي الذي يتخلل ضحكتي .. حضن زوجتي وهي في بيتنا واحتضان طفلتي وهي في مهدها .. أشعر أن صدري يضيق حتى لا يحتمل أنفاسي.. ما لها ثقيلة كالحديد؟!! هل سيكرهني الله وكنت أكرهه.. كنت أبغضه لأنه قدّر لي هذا المصير لكنـــ...." ابتلع ريقه، فخانته الكلمات فسقط اللعاب من فمه، ولكن بطرف قميصي الذي كان قد قدّ من كل الجوانب مسحت فمه.. أردف: "أنا أحبك يا إلهي وأعلم أنك لا تزال تحبني .. كنت غاضباً عليك فقط، وياليتني لم أفعل" كان يشهق، فيبكي.. يزفر، فينتحب.. يرتعش فيرشق اللعاب ويهتزّ شعره الأشعث.

احتضنته بين كتفي وصدري، فشعرت بدفء دموعه ولعابه فوق كتفي، فاحتويته أكثر حتى خبتت تنهيداته وصمت نحيبه، وبين هزّات ورعشات أطبق سكون وهمهمات؛ ناديته: "حنّا .. استيقظ يا صديـــقي" لكن الأوان كان قد فات وكل ما قابلني به صديــقي هو ابتسامة رضا تعلوها عينان نعساوان رحل عنهما بريق الحياة.

أصوات هادرة تمر بين الزنزانات .. يرتدي أصحابها ملابس غريبة الموضع والألوان والرائحة.. بشرتهم السمراء وأجسادهم الخشنة، كل هذا يوحي بأنهم محاربين.. عيونهم زائغة بيننا أكثر من عيوننا السائلة عنهم.

"لقد جاء المسلمون.. ترك الروم الحصن .. نحن أحرار" .. أحـــرار!! ما معنى تلك الكلمة؟ كيف ستكون الحريّة وقد اعتدت الأسر؟! .. دبّ الرعب في قلبي بقدر ما دبّت السعادة.. لم أتخيل يوماً أن تأتي تلك اللحظة رغم أنها كائنة في صدري منذ أُدخِلت السجن، ولكن عن ماذا سأبحث؟ في سجني كنت أبحث عن الحريّة، عن وجودي، عن الله، عن الإيمان، عن مكنونات ما حولي؛ أما الآن، وأنا أرى ضوء الشمس النهاري وقدمي تلمس الأرض وصدري يتنفس هواءً عبِق برائحة المسلمين.. عن ماذا غدوت أبحث؟

 

جميع الحقوق محفوظة لمصدر الخبر الوطن وتحت مسؤليتة ونرجوا متابعتنا بأستمرار لمعرفة أخر الأخبار علي مدار الساعة مع تحيات موقع موجز نيوز الأخباري

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى