
في زحام الأضواء التي تسطع فوق القطبين، حيث يحكم الأهلي والزمالك قبضتهما على المشهد الكروي المصري، هناك نجوم اختاروا دربًا مختلفًا، طريقًا وعرًا لكنه أكثر نقاءً، بعيدًا عن ضجيج الديربي، وصخب الجماهير المنقسمة بين الأحمر والأبيض، هم أولئك الذين تحدّوا القاعدة، ورفضوا أن يكون المجد حكرًا على من ارتدى قميصي القلعتين، فكتبوا أسماءهم بأحرف من ذهب في سجلات الكرة المصرية دون أن يطرقوا أبواب الجزيرة أو ميت عقبة.
من ملاعب الأقاليم إلى المدرجات الصاخبة، من الفرق الطموحة إلى المنتخبات الوطنية، صعد هؤلاء اللاعبون درجات المجد بعرقهم، فجعلوا الجماهير تهتف لهم رغم غيابهم عن معترك القطبين، حملوا شرف التحدي، وواجهوا إرثًا ثقيلًا يربط النجاح بألوان بعينها، فكسروا القواعد وغيّروا المفاهيم، وأثبتوا أن النجومية لا تُصنع فقط في مصانع الأهلي والزمالك، بل قد تولد من شوارع المحلة، أو أسوار الإسماعيلي، أو على شواطئ الإسكندرية وبالقرب من ميناء بورسعيد، في شمال مصر وجنوبها، أو حتى بين جنبات أندية لم تعتد رفع الكؤوس، لكنها عرفت معنى صناعة الأساطير.
بوبو.. أسطورة الدفاع السكندري وقلب الاتحاد النابض
حينما يُذكر نادي الاتحاد السكندري يسطع في الذاكرة اسم محمد إبراهيم المزانى، الشهير بـ"بوبو"، ذلك الأسد الذي زأر في ميادين الكرة لسنوات، مدافعًا عن عرين زعيم الثغر بروح المحارب، وعاشقًا لقميص الأخضر حتى آخر نفس في حياته.
بوبو لم يكن مجرد لاعب كرة.. كان روحًا تسري في وجدان كل سكندري، وحكاية كفاح صنعتها الموهبة والإصرار، تلك التي بدأت من الأزقة والحارات، حتى كتب اسمه بين عظماء الدفاع في تاريخ الكرة المصرية.
لم يكن طريق بوبو مفروشًا بالورود، بل كان ممهورًا بالتحديات والخذلان. طرق أبواب نادي الاتحاد السكندري مرارًا وتكرارًا، لكنه قوبل بالرفض، لم يكن في أعين المسؤولين حينها يصلح لأن يكون لاعب كرة قدم! كاد أن يستسلم، لكن القدر حمل له فرصة العمر، حين تدخل أحد محبي النادي، ليتم اختباره مجددًا، وهنا كانت البداية.
بلمسة فنية من المدرب كمال الصباغ، انطلق نجم جديد في سماء الكرة المصرية، ليخوض أولى مبارياته مع الاتحاد عام 1964 ضد اتحاد السويس، ومنذ ذلك الحين، لم يكن سوى السد المنيع أمام هجمات الخصوم.
لم يكن بوبو مجرد مدافع عادي، بل كان درعًا بشريًا، لا يعرف التراجع، ولا يخشى الالتحام، بل يخوض المعارك الكروية وكأنها معركة حياة أو موت. استمر مع الاتحاد السكندري حتى 1984، وكان عماد دفاع المنتخب المصري لعقدين من الزمن، من 1965 وحتى اعتزاله.
في سنواته الذهبية، رفع بوبو كأس مصر مرتين مع زعيم الثغر، عام 1973 وعام 1976، ليصنع الأمجاد لجماهير الإسكندرية، ويصبح أحد أعظم قادة الاتحاد عبر تاريخه.
لا تخلو مسيرة العظماء من المواقف التي تُخلدهم، وإحدى أكثر القصص طرافةً في مشوار بوبو كانت مباراته مع منتخب مصر أمام السودان، حين دخل الملعب ليكتشف أنه يرتدي فردتين شمال من الحذاء! لم يُفصح عن ذلك للمدرب، خشي أن يتم استبعاده، فقرر اللعب كما هو، وكانت النتيجة؟ قدم واحدة من أفضل مبارياته على الإطلاق!
رغم صلابة بوبو الدفاعية، كان يملك قلبًا نقيًا، ونفسًا ودودة، في عام 1977، خاض بوبو تجربة احتراف وحيدة في نادي الطائي السعودي، بناءً على رغبة رئيس نادي الاتحاد آنذاك، بعد واقعة إصابته للخطيب، وهناك لُقب بـ "الفك المفترس" من قبل الجماهير السعودية، لما كان يملكه من قتالية استثنائية في الملعب.
في عام 2011، رحل بوبو عن عالمنا، لكنه ترك خلفه إرثًا خالدًا لا يمحوه الزمن، ظل الاتحاد السكندري أكبر همومه حتى آخر يوم في حياته، لم يكن مجرد لاعب، بل كان رمزًا للوفاء والتضحية.
اليوم، كلما ذُكر الاتحاد، تردد في الآذان اسم بوبو، لأن الأساطير لا تموت، بل تبقى خالدة في ذاكرة الجماهير، وفى قلوب كل من عشقوا كرة القدم بصدق.