
في زحام الأضواء التي تسطع فوق القطبين، حيث يحكم الأهلي والزمالك قبضتهما على المشهد الكروي المصري، هناك نجوم اختاروا دربًا مختلفًا، طريقًا وعرًا لكنه أكثر نقاءً، بعيدًا عن ضجيج الديربي، وصخب الجماهير المنقسمة بين الأحمر والأبيض، هم أولئك الذين تحدّوا القاعدة، ورفضوا أن يكون المجد حكرًا على من ارتدى قميصي القلعتين، فكتبوا أسماءهم بأحرف من ذهب في سجلات الكرة المصرية دون أن يطرقوا أبواب الجزيرة أو ميت عقبة.
من ملاعب الأقاليم إلى المدرجات الصاخبة، من الفرق الطموحة إلى المنتخبات الوطنية، صعد هؤلاء اللاعبون درجات المجد بعرقهم، فجعلوا الجماهير تهتف لهم رغم غيابهم عن معترك القطبين، حملوا شرف التحدي، وواجهوا إرثًا ثقيلًا يربط النجاح بألوان بعينها، فكسروا القواعد وغيّروا المفاهيم، وأثبتوا أن النجومية لا تُصنع فقط في مصانع الأهلي والزمالك، بل قد تولد من شوارع المحلة، أو أسوار الإسماعيلي، أو على شواطئ الإسكندرية وبالقرب من ميناء بورسعيد، في شمال مصر وجنوبها، أو حتى بين جنبات أندية لم تعتد رفع الكؤوس، لكنها عرفت معنى صناعة الأساطير.
علي أبو جريشة.. عازف السمسمية وأسطورة الدراويش الخالدة
حينما تذكر كرة القدم المصرية، تتوهج أسماء لم تأفل، وتلمع نجوم لم تخفت، ويتصدر المشهد علي أبو جريشة، ذاك الفارس الذي داعب الكرة كأنها نغمة موسيقية على أوتار السمسمية، فاستحق أن يكون "فاكهة الكرة المصرية" وعازفها الأروع، ولم يكن مجرد لاعب، بل كان أيقونة، رسم بلمساته السحرية لوحات فنية بقيت راسخة في أذهان كل من شهد إبداعاته على المستطيل الأخضر.
ولد علي أبو جريشة في 29 نوفمبر 1947 بمدينة الإسماعيلية، فكان ميلاده ميلاد نجم كتب اسمه بحروف من ذهب في تاريخ الدراويش. التحق بالنادي الإسماعيلي عام 1960، ولم يكن قد تجاوز الثالثة عشرة من عمره، لكنه كان يحمل في قدميه موهبة استثنائية، فشقت مهاراته طريقها سريعًا إلى الفريق الأول، ليخوض أولى مبارياته وهو في السابعة عشرة، ويعلن عن نفسه هدافًا للدوري المصري في موسم 1966، في إشارة مبكرة إلى أنه سيكون أحد أساطير الكرة المصرية.
لم يكن علي أبو جريشة لاعبًا عاديًا، بل كان قائدًا بالفطرة، فقاد الإسماعيلي للتتويج بأول بطولة أفريقية في تاريخ الكرة المصرية، وحمل معها لقب هداف البطولة بثمانية أهداف، لم تكن مجرد أرقام، بل كانت قذائف كتبت اسم الدراويش في سجلات المجد. وانضم للمنتخب المصري في سن العشرين، واستمر بين صفوفه ثماني سنوات، حصد خلالها لقب كأس الأمم الأفريقية مرتين، وكان هداف الفراعنة في البطولة بخمسة أهداف أبهرت القارة السمراء.
عندما يتحدث العظماء عن لاعب، فاعلم أنك أمام موهبة استثنائية، وهذا ما حدث مع علي أبو جريشة، حينما سألت الصحافة العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ عن أفضل لاعب في مصر، فأجاب بكل يقين: "مصر لن تنجب في العشرين عامًا القادمة لاعبًا أفضل من علي أبو جريشة"، وكانت تلك شهادة من فنان، رأى في أبو جريشة روح الإبداع التي تميز كل من خُلق ليكون نجمًا خالدًا.
في عالم كرة القدم، حيث يلمع الأداء ويخفت الخلق، جمع علي أبو جريشة بين الإثنين، فكان ليس فقط لاعب القرن في أفريقيا، وأفضل لاعب مصري في القارة، ولكنه أيضًا نال جائزة الأخلاق الرياضية عام 1974، وكأن الكرة أرادت أن تمنحه وسامها الأسمى، تقديرًا لموهبته وأخلاقه التي جعلته محبوبًا من الجميع.
لم تنتهِ مسيرة أبو جريشة عند حدود المستطيل الأخضر، بل استمر في صناعة المجد مدربًا، فحقق للإسماعيلي بطولة الدوري العام موسم 1990، وكأس مصر عام 1997، ليبرهن أن العظماء لا يغيبون عن المشهد، بل يعودون بصور مختلفة، لكنهم يظلون خالدين في الذاكرة.
وفي عام 1979، أُسدل الستار على مسيرة أحد أعظم من أنجبتهم الكرة المصرية، لتقام مباراة اعتزاله في النادي الأهلي، في وداع يليق بعازف السمسمية، الذي بقيت أنغامه تتردد في أروقة الإسماعيلية، وفي قلوب عشاق الساحرة المستديرة.