
لطالما سكن حلم تحويل المعادن الرخيصة إلى ذهب خيالَ الكيميائيين منذ العصور الوسطى، متأرجحًا بين وهم الثروة وسعي التنوير الروحي، لكنه ظل لعقود طويلة حبيسَ كتب الأساطير، أما اليوم فيبدو أن هذا الطموح العتيق وجد له موطئ قدم في عالم الفيزياء النووية، بعد إعلان شركة «ماراثون فيوجن» عن إنجاز علمي غير مسبوق، عبر استخدام مفاعل اندماج نووي لتحويل الزئبق إلى ذهب.
كشفت الشركة الناشئة «ماراثون فيوجن»، ومقرها سان فرانسيسكو في الولايات المتحدة، عن نجاحها في توليد عنصر الذهب من نظير الزئبق- 198، داخل مفاعل من نوع «توكاماك»، وذلك عبر امتصاص النيوترونات وتحلل الإلكترونات، لتفتح بذلك الإعلان الذي بدا للبعض وكأنه مشهد من روايات الخيال العلمي، أبوابَ الجدل بين من يعتبره ثورة علمية واعدة، ومن يراه مجرد عرض تسويقي مبالغ فيه.
اللافت في القصة أنه بينما فشل الكيميائيون القدماء في إنتاج الذهب فعليًا، فإنهم وضعوا الأسس التي مهدت لعلم الكيمياء الحديث، وجاء القرن العشرون ليمنح الفيزياء النووية القدرة النظرية على تغيير نواة الذرة، وهي العملية التي تُعرف بـ«التحول النووي»، ومع ذلك ظلت هذه العمليات مكلفة وغير مجدية تجاريًا، لكن «ماراثون فيوجن» تدعي الآن أنها قلبت المعادلة، مستفيدةً من النيوترونات عالية الطاقة داخل مفاعل الاندماج.
ما يثير الاهتمام في إعلان الشركة الأمريكية، ليس فقط إمكانية توليد الذهب، بل الكمية المحتملة والعائد المادي المهول، ووفقًا لتقديرات الشركة، يمكن لكل مفاعل ينتج طاقة كهربائية بقدرة 1 جيجاوات أن ينتج 5 أطنان من الذهب سنويًا، أي ما يتجاوز نصف مليار دولار حسب أسعار السوق، ما يفتح الباب أمام نموذج اقتصادي جديد لمفاعلات الطاقة، حيث تتحول بهذا الطرح إلى مصانع للذهب إلى جانب دورها التقليدي في توليد الكهرباء.
ورغم جاذبية الفكرة، فإنها لم تسلم من سيل الانتقادات العلمية، إذ وصف بعض الخبراء المشروع بأنه «طموح إلى حد السذاجة»، مشيرين إلى أن إنتاج الذهب بهذه الطريقة يتطلب كميات هائلة من الطاقة، تفوق في بعض الأحيان ما يمكن توليده من المفاعل نفسه، كما أن التحديات التقنية، خصوصًا ما يتعلق بالبنية التحتية والتبريد وإدارة المواد المشعة، تطرح تساؤلات جدية حول الجدوى العملية، حسبما نقله موقع «newatlas».
ما يميز مقترح «Marathon Fusion» أن إنتاج الذهب ليس الهدف الأساسي، بل نتيجة ثانوية لتفاعل اندماجي صُمم في الأساس لتوليد الطاقة، وعلى غرار بعض نماذج إنتاج «التريتيوم»، تقترح الشركة استبدال بطانة المفاعل، التي عادةً ما تحتوي على «الليثيوم»، بسبيكة مكونة من الزئبق- 198، بحيث تُحوَّل الذرات إلى ذهب- 197 أثناء تفاعل الاندماج.
ووفقًا لورقة بحثية نشرتها صحيفة «التليجراف» البريطانية، تقترح الشركة استخدام زئبق مخصّب بنسبة 90% من النظير 198 للحصول على أفضل نتائج التحول، وبعد مرور هذا الزئبق عبر المفاعل، يمكن فصل الذهب الناتج كيميائيًا بطريقة تُعد بسيطة نسبيًا نظرًا لخواص الذهب الكيميائية، فيما يرى الخبراء داخل الشركة أن إنتاج الذهب قد يصل إلى 11 ألف رطل سنويًا لكل مفاعل بقدرة جيجاوات، دون أن يؤثر ذلك على الطاقة المولّدة.
قال آدم روتكوفسكي، المدير التقني في «ماراثون فيوجن»، لموقع «sustainability-times» إن الفكرة الجوهرية للمشروع تقوم على تسخير تفاعلات النيوترونات السريعة لإنتاج الذهب بكميات تجارية، مع المحافظة على التوازن داخل دورة وقود المفاعل.
من جهته، أبدى الرئيس التنفيذي، كايل شيلر، تفاؤله الكبير بإمكانية مضاعفة عوائد محطات الاندماج بفضل هذه التقنية، ما قد يُشكل ثورة مزدوجة في مجال الطاقة والاقتصاد، لكن الطريق إلى النجاح ليس مفروشًا بالذهب، فبعض نظائر الذهب الناتجة عن هذه العملية قد تكون مشعة، ما يعني أن المعدن الثمين يحتاج إلى فترة تخزين تصل إلى 18 عامًا قبل أن يكون صالحًا للاستخدام، كما أن التحديات المرتبطة بتوسيع نطاق تكنولوجيا الاندماج نفسها لم تُحل بعد، خصوصًا ما يتعلق بالوصول إلى الربحية الصافية من الطاقة، أي أن تُنتج المحطة طاقة أكثر مما تستهلك.